نظرية الاكوان المتوازية " 1 "

نظرية الاكوان المتوازية
تخيل معي أن هناك شخص شبيه بك تماما، يعيش على كرة أرضية مثل أرضنا هذه، يسكن في منزل يطابق تماما المنزل الذي تسكن فيه أنت، ولديه أم وأب مثل أمك وأبيك، ويركب سيارة شبيهة بالسيارة التي تركبها، ويأكل الطعام الذي تأكله، واسمه على اسمك واسم أبيه اسم أبيك، وهو الآن يستمع للسايوير بودكاست مثلما تستمع لها الآن، يستمع لنفس هذه الكلمات بالضبط، فيصيبه الذهول، أن كلاكما موجودان في هذه الكون الهائل الحجم، والفكرة التي خطرت الآن في عقلك تخطر على عقله، فلا يصدق أي منكما ما أقوله، فيقوم ذلك الشخص بإقفال البودكاست، وأنت تكمل الإستماع، هذا الشخص يبعد عنك على مسافة
مترا، أو بشكل آخر
أو بعبارة أخرى، أن الرقم واحد وأمامه مئة مليار مليار مليار صفر، هذه هي المسافة الفاصل بينك وبين قرينك بالمتر.
اليوم سأتكلم عن العوالم المتعددة والأخرى المتوازية، أعتقد أن الكثير ينتظر هذه الحلقة، وخصوصا أن الحلقة فيها من الغرابة ما لا يمكن للعقل أن يتصوره ولا حتى أن يقبله على المستوى الوجداني، ولكن ليس كل ما لا نتسطيع أن نتصوره أو نتقبله هو خطأ. ولا يعني أن ما سأسرده هو نابع من الخيال المحض وإن كانت الكثير من القصص والأفلام الخيالية تخوض في هذا الفكر، بل إن الكثير من هذه الأفكار نبعت من العلماء وعلم الفيزياء ومن القوانين الرياضية، لوجود تساؤلات في مواضيع علمية دقيقة وصلت إلى الحد لا يمكن إلا بالخروج بعوالم متوازية أو متعددة.
بالتعاون مع شبكة أبو نواف أقدم لكم هذه الحلقة من السايوير بودكاست شبكة أبو نواف تقدم مواد ترفيهية وأخرى هادفة، ولاهتمامهم بتقديم مواد مفيدة وبناءة ترسل لكم السايوير بودكاست من ضمن باقتها المنوعة، ليصل البودكاست لمسامع أكبر عدد من أفراد العالم العربي.
نقطة أخرى وهي عن برنامج جديد للآيفون والآيباد والآيبود صنع خصصيا للسايوير بودكاست، وهو برنامج يسهل عليك سماع البودكاست وإنزال الحلقات مباشرة، وكلما استجدت الحلقات تستطيع إنزلها من ضمن البرنامج، تستطيع إنزال البرنامج من الآب ستور بلا مقابل.
إبق معي في براق الفكر، ولنطلق معا إلى عوالم تفوق الخيال في صفاتها.
جوردانو برونو (Giordano Bruno)
ولد جوردانو برونو في سنة 1548 وذلك بعد وفاة نيكولاوس كوبيرنيكوس (Nicolaus Copernicus) بـ 6 سنوات تقريبا، في مدينة نولا في إيطاليا، وبعث إلى نابولي (Naples) للدراسة، فدرس في دير أوغستين، وفي سن السابع عشر أصبح عضوا في النظام الدمينيكاني (Dominican Order) – إن صح التعبير، وأطلق عليه الإسم جوردانو في ذلك الوقت نسبة لجوردانو كريسبو (Giordano Crispo) معلمه في الميتفيزيقيا، ودرس الدين إلى أن أصبح قسيسا وهو في سن الـ 24، انظلق في مسيرة تعليمه إلى قراءة الكتب الممنوعة آنذاك، حيث كان شغوفا بالعلم، فأصبح فيلسوفا ورياضيا وفلكيا، وعرف عنه أن ذاكرته خيالية، إلى درجة أن الملك هنري الثالث دعاه للتأكد مما إذا كانت قدرته هذه سحرية أو أنها طبيعية، وبعد أن شرح جوردانو للملك الفكرة، وهو أنه كان يعتمد على تنظيم الأفكار للحفظ، فقرر جورجانو كتابة كتابة حول الفكرة أسماه بـ “ظلال الأفكار” والذي أهداه للملك، فرد عليه الملك بالتقدير وبمعاش شهري.
من المبادئ التي اعتقد بها جوردانو هو مبدأ مركزية الشمس والذي يعود منشأ فكرته إلى نيكولاوس كوبيرنيكوس، ولكن طور هذه الفكرة حيث قال أن الشمس ليست إلا نجما، وأن هذا العالم الذي نعيش فيه أو الكون ممتلئ بعدد لا نهائي من العوالم (كعالمنا هذا)، وأن كل من تلك العوالم تحتوي على حياة ذكية، وبدأ بنشر أفكاره الفلسفية إما من خلال المحاضرات أو الكتب التي كان يكتبها، فبدأت الكنسية بتنحيته، وبدأت بالدخول في صراع معه، لاحقته محكمة التفتيش وغادر إلى عدة مناطق وسافر إلى دول مختلفة، فسافر إلى فرنسا وألمانيا وبريطانيا عدة مرات، وقام بالتدريس في كل من تلك الدول، وفي آخر رحلة له في ألمانيا سنة 1591 أرسلت له رسالة تدعوه للرجوع إلى فينس إيطاليا، حيث طلب منه جوفاني موتشنيجو (Giovanni Mocenigo) من الطبقة الأرستقراطية أن يأتي لكي يعلمه فن الذاكرة، وبعد أن وجد أن هناك فرصة للتدريس فجامعة بادوا (Unviersity of Padu)، وبعد أن تصور أن محاكم التفتيش ضمر تأثيرها رجع إلى إيطاليا، ولكن حينما رجع، لم يحصل على الوظيفة في جامعة بادوا (قدمت هذه الوظيفة الشاغرة للعالم جاليليوا جاليلي وذلك بعد سنة من تقديم برونو عليها)، وبدلا من هذه الوظيفة توجه لجوفاني لتعليمه فن التذكر، ولكن يبدو أن الخلاف بين الإثنين دفع بجوفاني للتبليغ عن جوردانو عند محاكم التفتيش، حينها اتهم جوردانو بعدة تهم منها في الهرطقة ومنها بالكفر والتعامل بالسحر وأيضا اتهم بإيمانه بتعدد العوالم.
دافع جوردانو عن نفس دفاعا قويا، ووضح الفلسفة التي اعتمد عليها في التوصل إلى قناعاته، ولكن لم يستفد من قوة منطقه في مقابل التعصب، فأرسل إلى روما وأدخل سجن أبراج نونا لسبع سنوات، وخلال فترة سجنه حوكم ودافع عن نفسه، وفي محاول له بإنقاذ نفسه قبل بالثوابت وأصر على إبقاء إيمانه بفلسفته، طالبه الكارينال أن يتنازل عن كل أفكاره، ولكن رفض جوردانو القبول، وبعث برسالة للبوب كليمينت الثامن (Celment VIII) يصلب منه أن يتدخل لإنقاذ حياته في مقابل التنازل الجزئي لأفكاره، ولكن البوب فضل أن يصدر عليه حكم المذنب وأن يقتل، فصدر عليه الحكم، وقدم للسلطات، وحينما أصدر عليه القاضي الحكم قال له جوردانو: “ربما أنت تنظق بالحكم ضدي بدرجة أعلى من الخوف من خوفي لتلقيه.” وطلب القاضي أن لا تريق السلطات دمه، فعرف جوردانو أنه سيحرق، وبالفعل أعدم العالم الفيلسوف الرياضي جوردانو برونو، وألقيت ذرات رماد جسده في نهر التايبر (Tiber river)، ووضعت جميع كتبه على قائمة الكتب الممنوعة، قائمة هدفها حماية إيمان وأخلاق المؤمنين.
وفي سنة 1889 رفع لبرونو ثمثالا تذكاريا يبينه ووهو واقف وعلى رأسه قلنسوة أو غطاء الثوب اللذي كان يلبسه، وضع ذلك التمثال في المكان الذي حرق فيه (في روما) تقديرا له، حيث يعتبره البعض شهيد العلم.
العالم اللا متناهي
واحدة من الأفكار التي كان يؤمن بها برونو هي أن العالم هو واحد لا متناهي ولا حدود له وغير متغير، وأن لا يمكن لأحد أن يستوعبه، وكان يعتقد أن الشمس ليست سوى نجمة كباقي النجوم (طبعا نحن نعرف أن هذا الشيء صحيح اليوم، ولكن حاول أن تتصور هذه الأفكار في تلك الفترة التي كانت الأرض هي مركز الكون، وكل شيء يدور حولها بما في ذلك الشمس) وبما أن الشمس هي نجم، وبما أن هناك كوكب ككوكب الأرض يدور حول الشمس إذن، لابد أن تكون هناك كواكب حول كل من تلك النجوم الأخرى، وبما أن هناك كواكب إذن هناك مخلوقات ذكية على تلك الكواكب.
واحدة من المبادئ التي تقوم عليها العوالم المتعددة هي فكرة اللا تناهي في حجم الكون، وهذه الفكرة هي أيضا فكرة معاصرة طرحها العالم براين جرين في كتابه “الحقيقة الخفية: عوالم متوازية والقوانين العميقة للكون” (The Hidden Reality: Parallel Universes and the Deep Laws of the Cosmos).
دعونا نفهم العالم الذي نعيش فيه، نحن نعيش على الكرة الأرضية، وهذه الكرة تدور حول نفسها وحول الشمس في منظومة شمسية متعددة الكواكب، وهذه المجموعة الشمسية في مجرة، وهذه المجرة تدور حول نفسها، أقرب مجرة حلزونية من مجرتنا (درب اللبانة) هي مجرة الآندروميدا، وهما في وجهة مأسوية، كلاهما يتجه للآخر للتصاد. نحن نبعد عن الشمس بمقدار 8 دقائق ضوئية، ونحن نتكلم عن سرعة الضوء والتي تعتبر هي أسرع معلومة تنتقل في الكون (طبعا هناك ما هو أسرع، ولكن من غير نقل للمعلومات)، ولو أن الضوء انطلق من الشمس إلى الكوكب القزمي بلوتو لاستغرق حوالي الخمس ساعات للوصول (خرجت المركبة الفضائية فويجر 1 خارج المجموعة الشمسية بعد حوالي 30 سنة من السفر، قارن هذا مع سرعة الضوء التي تستغرق 5 ساعات)، ولو أن نقطة من ضوء انطلقت من بداية مجرتنا لتصل إلى الطرف الآخر منها، لأستغرقت الضوء 100,000 سنة لقطع المجرة، وهذا هو قطر مجرتنا، وأما أندروميدا فإنها تبعد عنا تقريبا 2.5 مليون سنة ضوئية، فإن كانت مجرتنا تحتوي على 200-400 مليار نجم، فإنما تحتوي مجرة أندروميدا على ترليون نجم (أو 1,000,000,000,000 نجم)، عدد هائل لا شك.
أبعد ما نستطيع أن نراه من خلال التلسكوب هو قدر 13.7 مليار سنو ضوئية، أي أن الضوء انطلق جسم معين في الفضاء منذ القدم، واستغرق انطلاقه 13.7 مليار سنة قبل أن يصل إلى التلكسوب الذي إلتقطه، كما لو أن تنظر الآن إلى الشمس فأنت نتظر لها كما كانت قبل 8 دقائق، ولو نظرت لأقرب نجم بعد الشمس (ألفا سينتوري) لأريته كما كان قبل 4.3 سنوات ضوئية، أي أن الضوء انطلق من النجم قبل أربع سنوات والثلث إلى أن وصل إلينا، وهكذا بالنسبة للكون، الضوء الذي تستقبله التلسكوبات ليس إلا ضوءا صدر في الماضي السحيق، ليبث صورا قديمة عمرها 13.7 مليار سنة، لا يهرم فيها الضوء ولا يتعب.
هذا المحيط الذي نستطيع أن نراه باستخدام أعتى التلسكوبات يسمى بحجم هبل أو كرة هبل (Hubble Volume or Hubble sphere) أو يطلق على الحدود هذه حجم الأفق، كم لو أنك كنت تقف على شاطئ البحر تودع سفينه وتراقبها إلى أن تختفي بعد الأفق، هكذا نحن لا نستطيع أن نرى أبعد من ذلك في كوننا، كل ما نراه محكوم بهذه الكرة السماوية أو هذا الكون، لماذا لا نستطيع أن نرى باقي الكون الكلي؟ إذا كان الضوء لا يكل ولا يمل، وهو حثيث في انطلاقه في السماء، لماذا لا ننتظر فترة زمنية أطول حتى يصل الضوء إلى العين؟ لأنه ببساطة الكون يتمدد بسرعة أكبر من سرعة الضوء، ولذلك لا يستطيع الضوء الوصول لنا حتى لو تحرك إلى الأبد (أنا هنا تعمتدت أن ألا أخوض في بعض القضايا كبداية تكون الكون وعلاقة البداية مع الوضع الحالي).
إذن، بعد تكون الكون الكلي وانطلاقه إلى الحالة التي هو عليها الآن، تكونت عدة مناطق أو أكوان لا يمكننا أن نراها، ولا أن نعرف ما بها من مجرات ونجوم وكواكب وغيرها من الأشياء، وكل من هذه الأكوان محدود بحجم الأفق، وأن من فيها لا يستطيع أن يرى الأكوان الأخرى التي حوله، ماذا لو أن هذا الكون الكلي لا متناهي في الحجم؟ وفيه عدد لا متناهي من الأكوان التي حدود كل منها في كرة هبلية، ألا يعني ذلك أنه كما أن كوننا فيه حياة فإنه لابد أن تكون هناك حياة على الأكوان الأخرى؟ (العلماء يعتقدون أن الحياة قد تكون موجودة في كوننا هذا وربما حتى في مجرتنا، فما الداعي لأن لا تكون هناك حياة في الأكوان الأخرى؟).
بل أكثر من ذلك، بما أن الكون لا متناهي وأن أنواع المادة التي فيه محدودة ومعدودة (أي المواد كالذرات أصنافها محدودة كما هو معروف من الجدول الدوري)، وبما أن طرق تركيب هذه الذرات مع بعضها البعض أيضا محدود، إذن، لابد أن يكون في هذا الكون الكلي اللامتناهي أكوان مكررة، تتكرر ذرة بذرة، جزيء بجزيء، كواكب بكواكب، مجاميع شمسية بمجاميع شمسية، بما فيها من حياة ونبات وما إلى ذلك.
لنفهم هذه الفكرة، لنتخيل المثال التالي، لنفترض أنك أعطيت كل شخص على الكرة الأرضية ورق اللعب (أو ورق الكوتشينة أو الشدة أو الجنجفة كما نسميها في الكويت) المكونة من 52 ورقة، ثم طلبت من كل شخص أن يخلطها، هل تتوقع أن يكون هناك شخصين لديهم نفس الخلطة أو الترتيب للورق بعد الخلط؟ من الممكن أليس كذلك، وإن كانت الإحتمالات لا تسعفك حيث تحتاج إلى 8 × 1067 شخص حتى تضمن التكرار، ولكن تخيل لو أنك أعطيت عدد لا متناهي من الأشخاص أوراق اللعب، وطلب منهم أن يخلطوا الأوراق، هل تتوقع أن تتكرر نفس الخلطات؟ بالتأكيد.
إذن، لو أننا خلطنا الذرات وركبناها على بعضها البعض عشوائيا لنشكل جزيئات وتراكيب مختلفة ومنها نكون الأرض، فهل يحتمل أن تكون هناك أرض كأرضنا بنفس التركيب ذرة بذرة؟ بالطبع هذا الأمر معقول في ظل المعطيات، وكذلك من الممكن أن تتكون المجموعة الشمسية لا بل المجرة وحتى كل الكون المحكوم بكرة هبل يمكن تكراره بالكامل بما فيه من حياة وغيرها. ولذلك يقول العلماء أنه ستكون هناك نسخة من عالمنا أو كوننا هذا بكامل تفاصيليه بحيث ينطبق العالمين تماما، وسيكون هذه الكون على بعد:
مترا. وهذه مسافة خيالية، ولكنها تم حسابها رياضيا وقد ذكر هذا الرقم ماكس تيجمارك (Max Tegmark) في ورقة علمية أسماها بـ “العوالم المتوازية” (Parallel Worlds).
ربما الغرابة تتفاقم حينما نقول أنه وكما في المثال الأول في بداية البودكاست أنك قد تكمل أنت الاستماع للبودكاست، وقد يتوقف قرينك عن الإستماع، ماذا يعني ذلك؟ ذلك يعني أنه وإن تشابت العوالم مع بعضها البعض إلا أنه لابد وأن تأتي لحظة ويتغيران في مسارهما وينفصلان عن بعضهما البعض، فيكون الماضي مشترك، والمستقبل منفصل، وفلو أن هناك عوالم لا نهائية، فلابد أن تكون هناك عدة صور منك تتكرر كل منها في بداياتها، وتنطلق إلى نهايات مختلفة، ولذلك لو أننا نظرنا لهذا العالم من بعيد وبعد أن ينتهي الكون فإن كل الإحتمالات من الممكن أن تحدث ستحدث.
ويعد ماكس تيجمارك هذا العالم على أنه أبسط العوالم، ومع أنني في أبعد حدود أو في أفق الإستغراب إلا أنه يقول أن المستوى الأول لا جدال عليه في الأوساط العلمية، بل وأنه يناقش في المؤتمرات، وهو من أكثر الفرضيات شعبية، وتتفق مع التمثيلات الكمبيوترية، ولا تختلف هذه الفكرة عن أي من الأفكار الرصدية لهذا الكون، وربما قال نفس مقولته البروفيسور براين جرين مؤكدا هذه الفكرة، عجيب جدا جدا.
العوالم المتوازية الفقاعية
بعد أن تصارع آينشتين مع الكون الثابت اللامتسع ووضع الثابت الكوني – ليثبّت اتساع الكون – اكتشف العالم إدوين هبل أن الكون يكبر ويتسع مع الوقت، مما دفع آينشتين لإلغاء ذلك الثابت ويعتذر لاختلاقه، وحينما تفكر في أن هذا الكون الهائل يتسع فإن ذلك يعني أنك لو قلبت الزمن لتسافر فيه إلى الوراء كما لو كنت تعيد الشريط أثناء عرضه، ستجد أن الكون يتقلص أو ينكمش، ومعه تنكمش المسافات بين المجرات، ثم المسافات بين النجوم، ثم لتنكمش النجوم والكواكب على بعضها، وهكذا إلى أن تنضغط الأمور على بعضها تدريجيا لتصل إلى نقطة صغيرة جدا، عد لتشغيل الشريط مرة أخرى في الإتجاه الزمني فسترى ذلك الإنفجار العظيم الذي تحدث عنه العلماء الذي ولّد فقاعة هذا الكون الهائل بما فيه من من تجمعات مجراتية، ومجرات ونجوم وكواكب وغيرها.
هكذا بدأ العالم بدأ من نقطة، وإحدى التفسيرات لهذه النقطة الإبتدائية هو ما يسمى بنموذج الإتساع الفوضوي، حيث أن نقاطا في الكون يحدث وأن تنكسر بشكل عشوائي، وعند كل نطقة إنكسار يتكون كونا جديدا، وذلك الكون يبدأ بالإنتفاخ، في معظم الأحيان ذلك الإنتفاخ لا يكون كبيرا، ولكن لأن العملية عشوائية يحدث وأن كونا بمواصفات معينة – ككوننا هذا – ينتفخ ليصبح بهذا الحجم، ثم تتكون بداخله أكوان أخرى، وهكذا تبدأ باقي العوالم، فالعالم الواحد يولد عوالم، وكل عالم من تلك تولد عوالم أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية، كل عالم من تلك العوالم لا متناهية في الكبر، وكل منها بعيد عن الآخر إلى درجة أنه لا يمكن الوصول لها بأي شكل من الأشكال.
ماذا يفرق هذا الكون الذي نعيش فيه عن باقي العوالم؟ الفرق في أن كل عالم من تلك العوالم له ثوابت مختلفة، لأرجع قليلا إلى فكرة أخرى قبل أن انطلق بهذه، هناك فلسفة تسمى بالمبدأ الأنثروبي أو المبدأ الإنساني (Anthropic Principle)، وهذا المبدأ يقول أن الكون الذي نعيش فيه يحتوي على مجموعة من العوامل من قيم ومعادلات وقوانين تجعله مكانا قابلا للحياة، ولو أن خللا بسيطا أثر في أي من هذه القيم أو المعادلات أو القوانين لما أصبح للكون أي مراقب (المقصود بالمراقب هو نحن البشر)، فلو لم يكن الثابت الكوني كما هو عليه اليوم، لتمدد الكون بسرعة أكبر ولما كان بإمكان النجوم أن تتكون، ولو أن القوى الذرية كانت تختلف حتى بمقدار بسيط جدا لكان من المستحيل أن تتماسك أجزاء الذرة، ولما كان بإمكان أي من المواد التكون، ومن ثم لا يمكن للنجوم والكواكب أن تتكون ولا حتى للبشر أن يتكونوا، ,أول ظهور لهذا المعنى كان في سنة 1973 في ندوة احتفلت بتشريف ميلاد العالم كوبيرنيكوس، وكانت الفكرة المعروضة (مبدأ الإنتروبيا) تعارض مبدأ كوبيرنيكوس والذي أزال الأرض من مركزيتها وبذلك أزال أي أمتياز لموقع الإنسان في الكون، هذ المبدأ يرجع للإنسان مركزيته نوعا ما، يقول براندون كارتر – الذي تقدم بالفكرة: “بالرغم من أن حالنا غير مركزي، ولكنه حتما مميز إلى درجة ما.”
فعلا، يتساءل براين جرين في كتابه “الحقيقة الخفية”: لماذا الثوابت لها تلك القيم؟ “تحاول وتحاول (يقصد الإجابة على السؤال)، ولكنك تأتي خالي اليدين”، ولكنه يجيب على هذا السؤال بتحليل له علاقة بموقعنا من الشمس، لماذا أصبحت الأرض بهذه المسافة الحرجة من الشمس والتي تجعل من الأرض لا زائدة في الحرارة ولا ناقصة، بل بالضبط مناسبة للحياة، ها هي باقي الكواكب في المجموعة الشمسية، لا يحتوي أي منها على حياة شبيهة بالتي نراها على الأرض (ربما تكتشف فيها حياة في المستقبل، ولكن بالتأكيد هي ليست كتنوع الحياة ها هنا)، للإجابة على هذا السؤال من الممكن القول أن هناك المليارات المليارات المليارات من النجوم، وكثير من النجوم نشأت حولها كواكب، ويدور بعضها في مدارات تتسبب في ذوبان هذه الكواكب، وتدور كواكب أخرى في مدارات تتجمد فيها، ولكن هناك كواكب لا تميل إلى تلك ولا إلى تلك، هذه الكواكب تعيش في ما يسمى منطقة جولدي لوكس (Goldilocks Zone) نسبة لقصة جولدي لوكس والدببة الثلاث، والتي لم يعجبها الحساء الحار ولا البارد، بل أعجبها الحساء المضبوط تماما، حينما تكون هذه الكواكب في تلك المنطقة تكون هناك فرصة للحياة، وربما الحياة الذكية أيضا، كما لو أن هناك حفرة في صحراء، لو أنك رميت كرة من طائرة من الأعلى في الصحراء وبشكل عشوائي، فهل تتوقع أن تسقط الكرة في الحفرة؟ بالطبع لا، ولكن ماذا يحدث لو أن المليارات المليارات المليارات من الكور أسقطت بشكل عشوائي في الصحراء؟ ذلك يعني أن احتمال سقوط إحدى الكور في الحفرة أكبر، تخيل لو أن الحفرة بها ماء، ولنفترض وكانت الأجواء مناسبة فنمت فطريات على الكرة، ولنفترض أن الفطريات ذكية، وإعتبر أن ليس لها القدرة على النظر خارج الحفرة، ماذا تتوقع أن تفكر؟ ستقول: “كيف وحدث أن نمينا على الكرة؟ فالبيئة مناسبة من ماء وأجواء دافئة، ورياح مناسبة، كل الثوابت لها قيم تسمح لنا بالنمو”، ولكن مع اكتشاف العدد الهائل من الكور خارج الحفرة، ستفهم السبب.
كذلك حينما يتساءل العلماء كيف يمكن لتلك الثوابت في هذا الكون الذي نعيش فيه أن تكون بتلك الصورة الدقيقة بحيث يكون الكون على ما هو عليه (وكأنما نقول أن هذا الكون موجود في منطقة الجولدي لوكس)، ولكن كيف؟ يكون الكون كذلك لو أن هناك عوالم مختلفة كل منها نشأ بطريقة تختلف عن الكون الآخر، بحيث تختلف الثوابت من كون لآخر، حينها تتكون أكوان باردة لا مجرات ولا كواكب ولا نجوم وتتسع بسرعة كبيرة جدا، وأخرى لا تتسع ثم تنهار بسرعة كبيرة وتختفي، هذه النقاط التي تنكسر في الكون كل منها ينكسر بطريقة بحيث تتكون فيها ثوابت مختلفة، والثوابت تلك هي التي تدعم تكون كون ككوننا، وبذلك تنشأ فيه حياة، ونعود مرة أخرى لنرفع التميز الذي تميز به الإنسان، لا بل أكثر من ذلك، ربما تكون هناك أكوان تنشأ فيها حياة ولكن بطرق مختلفة تماما عما نحن عليه، فإذا كان ككوننا هذا قابل لأن تكون فيه حياة بيولوجية كحياتنا، فالأكوان الأخرى قد تحتوي على حياة أخرى تعتمد على الثوابت الأخرى، قد تكون هناك حياة أخرى لا علم لنا بشكلها بتاتا.
عوالم البرين (Brane Multiverse)
تتصادم النظريتان النسبية والمكانيكية الكمية في بعض أجزاء هذا الكون حينما يجتمع العالم الكبير مع العالم الصغير، فعلى سبيل المثال حينما يقوم ثقب أسود بابتلاع نجم هائل، النجم الهائل كبير في الحجم يسحق في نقطة صغيرة جدا، ولهذا النجم جاذبية هائلة كلها تتركز في نقطة، أيّ القوانين نستخدم حينما يتحول النجم الهائل إلى نقطة صغيرة، هل نتحدث عن النظرية النسبية التي تتعامل مع الأشياء الكبيرة، أم أننا نتحدث عن المكانيكية الكمية التي تتعامل مع النقاط المتناهية الصغر؟ يقول براين جرين (Brain Green) في مقابلة له مع برنامج الإن بي آر (NPR) أن ها هنا تتحطم النظريتين، ولكن ما يأمله العلماء أن نظرية الأوتار الحديثة والتي تستطيع أن تعالج العالمين في نفس الوقت أن تكون صحيحة، حيث أنها من الناحية النظرية أو من الناحية الرياضية تفسر هذه الحالة الغريبة من الخليط بين الكبير والصغير بلا أدنى مشكلة.
بسرعة خاطفة، الفكرة في نظرية الأوتار (والتي سأتركها لحلقات قادمة) تعتمد على تحويل الجسيمات الصغيرة مثل الإلكترون والكواركس والبوزيترون وما شابه من نقاط أو كرات إلى حلقات وترية متتذبذبة، ربما حينما تتخيل محتوايات الذرات من بروتونات وإلكترونات فأنت تتخيل كل من هذه الجسيمات وكأنها نقاط أو كرات صغيرة، فتتخيل أن كرة الإلكترون الصغيرة جدا تحوم حول نوات الذرة، والتي هي أيضا مكونة من كرات صغيرة من البروتونونات والنيوترونات، هذه الصورة تسمى بـ “نموذج بور” (Bohr Model)، ولكن هذه الصورة تغيرت حينما ظهرت الميكانيكية الكمية، ولكنها لم تتغير صورة الإلكترون كلية، بين الحين والآخر يتم تمثيل الإلكترون على أنه نقطة كروية، ولكن حينما ظهرت نظرية الأوتار تغيرت هذه الصورة الكروية للإلكترون، وتحولت من النقطة الكروية فأصبحت حلقة دائرية (في إحدى أشكالها)، كربطة المطاط.
نظرية الأوتار هذه يُعتقد أنها النظرية النهائية في توحيد القوى الأربع الفيزيائية الموجودة في الطبيعة، القوى الأربعة هي:
1. القوة الكهرومغناطيسية (Electromagnetic Force) (وهذه القوة كانت في الأصل قوتان: كهربائية، ومغناطيسية، ولكن قام ماكسويل بتوحيدهما معا تحت عنوان القوة الكهرومغناطيسية).
2. القوة النووية الضعيفة (Weak Nuclear Force) (المسؤولة عن تحلل الذارت Radioactivity).
3.القوة النووية القوية (Strong Nuclear Force) (وهي القوة المسؤولة عن تماسك نواة الذرة بالرغم من أن البروتونات تحمل نفس الإشارات، كما لو أنك أتيت بمغناطيسين وقربت القطبين الشماليين من بعضهما، ذلك سيدفع المغناطيسين بعيدا عن بعضهما البعض، وكذلك في نواة الذرة حيث البروتونات، كيف يمكن للبروتونات بتساوي إشاراتها الموجبة أن تبقى متماسكة؟ هناك تتدخل القوة النووية القوية، حيث تعمل فقط في مسافات قريبة جدا، وتمسك بمحتويات نواة الذرة بقوة هائلة).
4. الجاذبية (Gravity)، وهي أضعف القوى الأربع، حيث أن القوة الكهرومغناطيسية أقوى منها بمليارات المرات، ربما لا يمكن أن تتصور كيف أن هذه القوة تعتبر أضعف القوى مع أن الأرض تمسك بك، وبالحيوانات والنباتات والباقي الجمادات من بحار وجبال وما أشبه، والشمس تمسك بمجموعة من الكواكب في مدارها، والثقوب السوداء بقوة جاذبيتها تلتهم كواكب ونجوم أحيانا في لحظات، كيف يمكن أن تكون الجاذبية ضعيفة إلى هذا الحد؟ للمقارنة، ما عليك أن تفعله هو أن تأتي بمغناطيس، وضع على الطاولة مشبك من حديد، ثم قرب المغناطيس إلى المشبك، سيلتصق المشبك بالمغناطيس مقاوما لجاذبية الأرض، كل هذه الأرض بكتلها الهائلة، وبحجما الكبير الضخم لم تستطع أن تمسك بمشبك جذبه مغناطيس صغير للغاية، هكذا يتضح الفرق.
حاول العلماء على فترات أن يوحدوا هذه القوى، فأصلها من الناحية المنطقية واحد، الكون حينما كان في بداياته كانت هذه القوى واحدة، ولكنها تفرقت وكل منها عمل بطريقة مختلفة، آينشتين حاول أن يجمع بين القوة الكهرومغناطيسية والجاذبية، ولكنه لم يقدر، وبعد محاولات كثيرة استطاع ثلاث علماء: شيلدون جلاشاو (Sheldon Glashow) وستيفن وايبيرج (Steven Weinberg) ومحمد عبد السلام (Mohammad Abdus Salam)، أن يوحدوا القوى الثلاث الأولى تحت ما يسمى بنظرية النموذج القياسي (The Standard Model)، ولكن أهملت هذه النظرية القوة الأخيرة والمهمة وهي قوة الجاذبية، هنا دخلت نظرية الأوتار لتوحد جميع هذه القوى بعد أن فسرت كل المكونات الأساسية الصغيرة في الطبيعة على أنها أوتار.
ولكن مع تكون هذه النظرية تكونت أبعاد جديدة لم نكن نعرف عنها، نحن معتادون على الأبعاد الثلاث التي نعيش فيها، حيث نتحرك إلى الأمام والخلف، وإلى اليمين واليسار، وإلى الأعلى والأسفل، هذه الحركة ممكنة لتوفر هذه الأبعاد الثلاث المكانية، أضاف آينشتين بعدا آخر للأبعاد الثلاث، وهو الزمن، بذلك أصبحت الأبعاد أربعة، نظرية الأوتار تضيف 6 أبعاد أخرى للعالم الذي نعيش فيه، ولكن بسبب صغر هذه الأبعاد لا يمكننا رؤيتها ولا التعامل معها، وهذه الأبعاد موجودة في كل نقطة على كل شيء، وهذه الأبعاد ملتوية على بعضها البعض، بسبب صغرها المتناهي لا يمكن لنا أن نتحرك فيها، ووهي التي تصنع من الأوتار أشكالها المختلفة، بذلك تتكون الأجسام الصغير مثل الإلكترونات والكواركات وغيرها.
خمسة نظريات وترية تم تأسيسها، كل منها له أبعاد مختلفة، ولكن كل منها صحيح، حتى أتى إدوارد ويتون (Edward Witten)، ووحد الخمس نظريات تحت نطرية تسمى بـنظرية إم (M-Theory)، قامت هذه النظرية بتوحيد النظريات الخمس والتي وحدت القوى إلى نظرية واحدة ولكنها أضافت شيئا أساسيا، وهو بعدا آخر، ليكون في الطبيعة 11 بعدا ككل، ولكن بدلا من أن يكون هذا البعد صغيرا جدا سيكون هو البعد الأب، أو الرئيسي (وكلمة الأب من عندي وليست علمية، حتى أوصل المعنى).
أضف لذلك أن العلماء بعدما نظروا لهذه النظريات اكتشفوا أن هذه الأوتار الصغيرة جدا ولكن بإمكانها أن تصبح طويلة جدا، وتصل إلى الحد أنه من الممكن أن تكون بدلا من أوتار تكون أغشية، وواحد من هذه الأغشية هو العالم الذي نعيش فيه، فنحن نعيش على وتر أو غشاء وهذا الغشاء فيه 3 أبعاد نتحرك فيها، وستة صغيرة جدا، فهذا هو كوننا، وكوننا هذا يعيش في البعد الأكبر الحادي عشر، تخيل لو أن هذا البعد الحادي عشر يحتوي على عدة أغشية أخرى مثل كوننا، فستكون هناك عدة أكوان كل منها منفردة عن الآخر، ويعتقد العلماء أن هذه الأكوان قد تكون بعيدة عنا بقدر مليميترات، أو سنتيمترات، ولكننا لا نراها ولا من فيها (ذلك إذا كان فيها أحد).
حتى أقرب هذه الصورة، تخيل معي أن بيدك ورقة وعلى الورقة هذه يتمشى نمل، بالنسبة للنمل فهو يعيش في عالم مسطح ثنائي الأبعاد، هذه الورقة الثنائية الأبعاد تعيش في عالم ثلاثي الأبعاد. تستطيع أن تأتي بورقة أخرى ترفعها فوق هذه الورقة وتضع عليها مجموعة أخرى من النمل تعلقها فوق الورقة الأولى في الهواء، فإن قربت هذه الورقة للأخرى لأدنى مسافة لا يمكن للنمل في العالم الأول أن يعرف أي شيء عن النمل في العالم الثاني، هذه صورة تقريبة تبين الفكرة، إذن، في العالم ذو الثلاث أبعاد تستطيع أن تضع عدة عوالم كل منها ذو بعدين، نعود لعالمنا، عالمنا ذو ثلاث أبعاد (لندع البعد الزماني والأبعاد الستة الصغيرة جانبا)، هذه الثلاث أبعاد تعيش على غشاء، وهذا الغشاء يعيش في البعد الأكبر، وكما في فكرة عوالم النمل تكون فكرة عالمنا والعوالم الأخرى، كلها تعيش في بعد يحتويها كلها، ولكن لا تسطيع من خلالها رؤية العوالم الأخرى، كما لا يستطيع النمل في عالم الورقة المسطحة مشاهدة النمل في عالم الورقة المسحطة الآخر.
العالم الأكبر الذي يحتوي على كل هذه العوالم أو الأغشية يسمى بـ “البالك” (Bulk)، وتعني هذه الكلمة الحجم أو الكتلة الكبيرة، وليس المقصود منها الكتلة الفيزيائية والتي تعطي الثقل، ولكنها تقصد الشيء الأكبر، ويشبه العلماء البالك بالخبر الذي يقطع إلى شرائح – التي نطلق عليها اسمه – التوست (في الغرب الخبز يصبح توستا بعد التحميص، نعود)، كل شريحة من هذه الشرائح هي عالم من عوالم البرين، ونحن على واحدة من هذه الشرائح.
يخبرنا العلماء أن الكون الذي نعيش فيه الآن كان حاصل نتاج تصادم عالمين من الأغشية مع بعضهما البعض، وكلما يتصادم عالمان كلما نتج منهما عالم أو عوالم جديدة، إذن هذه العوالم من نوع آخر تنتج عوالم جديدة بطريقة مختلفة عن الطرق التي ذكرتها سابقا، وهي قائمة على نظرية لم يتم إثباتها بعد، التجارب التي تقام حاليا في المصادم الهدروني الكبير ربما ستثبت صحة نظرية الأوتار، بعدها من الممكن أن تتضح أكثر فكرة العوالم المتعددة القائمة على هذه النظرية.
تفسير تعدد العوالم (Many-Worlds Interpretation)
نصل إلى آخر العوالم التي سأتحدث عنها (وإن لم يكن هذا هو العالم الأخير)، ويعتمد هذا العالم على النظريات الميكانيكة الكمية، تحدثت في السابق عن قوانين الميكانيكة الكمية، وهي تتعامل مع الأجسام الصغيرة جدا، وفي عالم الأجسام الصغيرة تحدث من الغرائب ما لا يمكن أن نعقله، كل ما هنالك أننا نتقبله لأن القوانين تثبته، فمثلا ذكرت في بودكاست سابق أنه حينما نسقط الضوء على شقين فإن الفوتون الواحد يمر خلال الشق الأول، ويمر خلال الشق الثاني، ويمر خلال الشقين ولا يمر في أي منهما، والعجيب أنه إذا ما أردنا أن نعرف من أي الشقوق دخل الفوتون يتوقف هذا الإلكترون من عادته الغريبة ويقرر أن يدخل من أحد الشقوق، تصور – كمثال – لو أنه طلبت من ساحر أن يخرج من بيت به بابين، حينما لا تنظر لهذا الساحر فهو يمر خلال الباب الأول، ومر في نفس الوقت في الباب الثاني، ويمر أيضا من البابين، ولا يمر في أي منهما، لنفترض أنك وضعت كاميرات مراقبة على البابين لتعرف من أي من البابين خرج الساحر، حتى لا يكشف لك الساحر من أي من البابين خرج يقرر أن يخرج من أحدهما فقط، طبعا هذه التجربة أجريت على الأجسام الصغيرة وهي مؤكدة بلا أدنى شك.
كيف استطاع الإلكترون أن يقوم بهذه العملية السحرية؟ بحسب الميكانيكة الكمية، فإنه لا يمكن القول بمكان الإلكترون (كمثال على أحد الجسيمات) بالضبط، بل يمكن القول باحتمال مكان وجوده، أي أنه يتبع موجه احتماليه، لو سألك أحدهم الآن أين أخوك الآن ستقول أنه يحتمل أن يكون أخي في السوق أو في البيت أو العمل أو في السيارة، هناك عدة احتمالات، ولكن تستطيع أن تقول أنه يحتمل أن يكون في العمل بشكل أكبر من كونه الآن في السوق، ويحتمل أن يكون في السوق بشكل أكبر من كونه في البيت، إذن، هناك احتمال بوجود أخيك في عدة أماكن، ولكنه وجوده في أماكن معينة أكبر من احتمال وجوده في أماكن أخرى، وما أن تتصل بأخيك حتى يخبرك بمكانه بالضبط، هكذا هي الحالة بالنسبة للأجسام الصغيرة، هي موجود هنا وهناك، ولكن بنسب احتمالية مختلفة، ولكن الفرق الشاسع بين المثال والحقيقة، والفرق هو أن الأجسام الصغيرة هي فعلا موجودة في كل تلك الأماكن، وليس كما في حالة أخيك هو فعليا مجود في مكان محدد.
نأتي لقضية الإتصال لمعرفة مكان أخيك، أو بالمقارنة، حينما يقوم العلماء بالتجربة لمعرفة مكان الجسيم، ما يقوله العالم الكبير بور أن ما يحدث أنه بمجرد أن نختبر الجسيم لنعرف مكانه تنهار جميع الإحتمالات، ويصبح الجسيم في مكان محدد، أي أنه يصبح هنا وليس هناك، وإن كان قبل التجربة كان هنا وهناك بنسب مختلفة، هذه النظرة – نظرة إنهيار الإحتمالات – سببت إشكالات في قوانين المكانيكية الكمية، وتركت ثغرة فيها لم يستطع العلماء تفسيرها، هنا يدخل العالم هيو إفيريت (Hugh Everett)، ويلغي فكرة إنهيار الموجة الإحتمالية، وبدلا من ذلك فسر أن ما نراه بأنه ليس إنهيارا، بل إنه حينما أردنا أن نعرف مكان الإلكترون انشق العالم إلى جزئين أو أكثر، بحيث أن تكون هناك نسخة منا تقيس مكان الإلكترون هنا، ونسخة أخرى منا تقيس مكان الإلكترون هناك، ونسخة أخرى منا تقيس مكان الإلكترون في مكان آخر غير هذا وذاك، وهكذا، إذن العوالم تفصل، فبدلا من أن يكون مكان الجسيم واحد، يكون هناك عوالم في كل منها الجسيم موجود ونحن موجودن، في كل منها نقيس أماكن الجسيم، وهذا ما يسمى بالعوالم المتعددة.
تخيل لو أنك خيرت بأن إما تذهب إلى اليمين أو إلى اليسار، فاخترت أن تذهب إلى اليمين، وتزحلقت على موزة وسقطت على الأرض وانكسرت يدك، عندها تقول: “يا ليتني ذهبت إلى اليسار”، ولكن في العوالم المتعددة أنت قمت باختيار الذهاب إلى اليمين، وأيضا قمت باختيار اليسار، وحينما اخترت انشق العالم إلى عالمين، في العالم الأول تزحلقت على الموزة، وفي العالم الثاني لم تصب بأي سوء،و مع كل اختيار ومع كل حركة تنشق العوالم إلى عوالم متعددة تكون جميع الإحتمالات موجودة.
أين هذه العوالم، هي موجودة معك، في نفس المكان والزمان، ولكن يفصلها شيء آخر (لا أعرف ما هو)، ولكنها موجودة معنا، تنفصل لوجود جميع الإحتمالات، وفي كل منها نسخة منك، ولكن تفرعت لمستقبل مختلف، ولو كبرت وسألت نفسك ماذا يحدث لو أنني لم أختر أن أدرس الهندسة، وبدلا من ذلك درست الطب، أو ماذا يحدث لو أنني تزوجت بتلك بدلا من هذه، وماذا يحدث لو أن لم أتأخر قليلا، لوقع حادث مروع، كل هذه الإحتمالات حدثت، وأنت درست الطب، تزوجت بتلك، ولم تتأخر ومت بالحادث، ويعيش كل من قرائنك تجارب مختلفة عنك، كل منهم في عالمه الخاص.
حقيقة أم خيال
ربما تتصور أن هذه العوالم أتت اعتباطا، ومن الممكن أن تتخيل وتتصور عوالم أكثر من هذه، وهذه العوالم أعقد من التي ذكرتها، وخصوصا إذا كان خيالك خصب، المجال فيه فسحة كبيرة للخيال، ولكن ما ذكرته لم يأت من خيال سرح فيه عالم من غير أن يبني هذا التصور على قواعد، بل إن هذه التصورات مبنية على قوانين رياضية بحته، والمشكلة أن هذه القوانين تحل قضايا حقيقة في العلم، ومنها نستخرج كل ما تراه من حولك من فوائد علمية وتكنلوجية، ولكنها في نفس الوقت تفتح بابا غريبا مثيرا لا يمكن للعقل أن يقبله، هذه التصورات خلفتها القوانين، ولم تكون محض خيال، ربما مع تطوير القوانين من الممكن أن تسد بعض الثغرات التي نتجت منها، ولكن بالتأكيد ستأتي قوانين أخرى لتفتح عوالم جديدة أكثر غرابة.
منقول و رأي سوف يكون لاحق أن شاء الله

***********************


***********************

تعليقات